قصيدتان
وليد خازندار
أبواب السهر
الصباح خاطف هنا.
الضوء يّروي، الصوت يكمل:
هاهو الأبديٌ في الشوارع
ذاهب في الزيارة القصيرة.
المراكب مّلأي من الأزلْ
والحبٌ يمكن أن تراه
عابرا، يدفع في الأفق أشرعة.
المجازات واسعة:
قصر الشوق، دار الهلال
عين الشمس، باب الخّلق
من وادي الملوك، قريبا من هنا
ملك طفل، بابتسامةي قتيلةي
يدور الأرضّ، في مواكب الذهب
باحثا لعودة الروح عن مجاز.
حياة واحدة ليسّ تكفي إلا لنّخسرها
إلا لكي لا نّري اليدّ القريبةّ التي طّعّنّتْ
حينما استدرنا.
تلزم الحياة، ثانية
كي نسامحّ، في الأقل.
لا ينام الناس في هذي المدينة.
كأنهم في حراسةي حتي الصباح.
علي سبعة عشرّ بابا يوزٌعونّ السهر
ما أن يبدأ التوجس حتي يبدأ الغناء.
يصمتونّ طويلا بين المقاطع:
من أين تمكٌّنّ الحزن من المدينة؟
أمن ثغرةي في السور
أم في الأغنية؟
هنا، يمكن أن تراه
الطفل ليسّ في مهده
حافيا يشقٌ الليلّ والسديم:
أخبارْ، أهرامْ.
بابتسامةي عفٌّيةي يقاتل
يستردٌ العاصمة.
معابر
سماء علي بعد ذراعكّ
معدنية، وأرض قليلة
حدٌقْ مباشرة في العيون حولكّ
ربما عرفتّ ما الخبيء.
الأضواء ليست كي تّرّي أو ترّي.
الغزاة يعبرونّ في مّرّحي نحو أبوابكّ.
الصيحة علي عتباتها
لم تعد تستوقف أّحّدا.
تغيٌّرّ الكلام، تغيٌّرتْ مذاهبه
وأنتّ حامل، لم تزل، مفاتيحكّ
في بلاغةي لم تعد تصل
في عّراءي فصيح.
أين الغنائيونّ الذينّ زيٌّنوا لكّ هذا
الكلاميونّ،
أطالوا فيه، ثم أسرفوا؟
أتظنٌ لأجلكّ يسرعونّ الآنّ إلي الردهات؟
إنٌّه النصف الثالث، لم يزل، من الليل
في المعابر الحصينة، بين المدن المعلٌّقة.
إحلمْ، إذا، صاحيا
بأبواب مفاتيحي أغلقتْ في وجهكّ الدنيا.
إطو ذراعكّ تحتّ رأسكّ
تحدٌّثْ إلي نفسكّ، ماشئتّ، في المنام
لكن علي نصف إغماضةي
إنتبهْ إلي ما تبقٌي من وجودكّ اليسير.
--------------------------------------------------------------------------------
المستوطنة
أسيوط : مصطفي البلكي
تظهر لك المستوطنة الخشبية كنقطة في بحر، كلما دنوت منها . بدأتْ تبوح لك بتفاصيلها ، بهدوء وبدون أي عائق يمنع العين عن السباحة علي سطحها..
كل شئ في مكانه ، لم يبرحه : الغرف مغلقة عليها أقفالها، متراصة في صفين منتظمين ، بينهما طرقة مبلطة ببلاط خرساني ، تآكلت حوافها ، يفصل بين كل بلاطة وأختها فراغ، سمح لنباتات صحراوية من الفصيلة الشوكية بالطلوع .... في نهاية الطرقة يقبع وابور النور بلونه الأسود المتهالك صامتا ..خلفه علي مسافة مائة متر تقريبا ، تطل شجرة عبد النور بأغصانها المثقلة بورق أصفر يشتاق لموسم الربيع ... تطل علي المستوطنة من فوق التلة التي تخفي خلفها ركام الخشب .
نظرة واحدة كفيلة بإعادتك لسنين مضت ، وبالتحديد لتلك العصرية التي غادر فيها جسدك سيارة المؤسسة وبيدك حقيبتك الجلدية ، المكتوب علي سطحها اسمك فوق شريط بلا ستر بخط وجنات الرقعة .
هرع إليك قاطنو المستعمرة بأجسادهم المتباينة : السمين ، النحيف ، والبين بين ، نامت أياديهم الخشنة في يدك الناعمة ، شعرت كأنها أرض محروثة ."عبد النور أول من تقدم بجسده النحيل وبوجهه البشوش ، شعرتّ كأنك تعرفه منذ زمن ، قد تكون صادفته أمام بيت ، فأطلق صوته يدعوك لتشاطره فطوره ،أو قد يكون أحد زبائنك .. مد إليك يده وقال:
أخوك عبد النور
عاشت الاسامي
وتابعت :
وأنا جاد
تولي هو تعريف الرفقاء لك .
أشار إلي السمين الذي يتقدمه كرشه وقال : الصاحي وللنحيف الذي يغيب رأسه داخل طاقية محاطة بلاسة بيضاء مزهرة وقال سيد الناحل ثم أشار بيده إلي الغرف المقابلة والملاصقة لدورة المياه وأخبرك أن قاطنيها هم مزيج من الهنود والباكستان والبنغال وقال:
هما في حالهم وإحنا في حالنا .
ساعتها دب داخلك الخوف ، وركبك الغم ، وقلت لنفسك :
" ها أنت يا جاد وسط الموج بلا مجاديف ، والتاجر الشاطر
من يبيع ولا يشتري ، فعليك بوضع اعصابك في ثلاجة ،من اليوم عليك فعل هذا
انتقلتّ برفقتهم إلي غرفة عبد النور وجدتها مكونة من
أربعة جدران من الخشب الحبيبي القائم والمتساند علي كتل خشبية صلدة .. ولمحت فيها سريرا سفريا واطئاّ ومنضدة متسخة عليها بوتاجاز سطحي بعينين، وكنبة يرتشق أعلاها تصاوير لأطفال بأردية نظيفة، وبابتسامات مشرقة ، تغرق وجوههم ،أطلقوها هكذا قلت لنفسك بإلحاح من المصوراتي ، لمح نظرتك فقال :
دول أولادي
ربنا يخلي
وأنت عندك إيه ؟
لسه ربنا ما اردش
عنده كتير
" يا له من عذاب عاودني في تلك اللحظة ، جعلني استعيدج تعلٌق عيني وجنات بوجهي ليلة السفر ، وكذلك استعادت الكلمات التي استطعت ترجمتها ، وهي تصر علي ألا تبرح محيط عينيٌ .. قالت بصمتها أن زمن الغائب الذي أصبح نعتا لها سوف يطول تعلقه بها بسفري ..وأن النظرة العابرة لكل بطن منتفخ ستكون بمثابة الموت يلاحقها وهي تمد يدها لبطنها المشفوط . لم استطع أن أقول لها أن جسدينا قد انهكهما كثرة التجريب . وقد آن لنا أن نلتقط أنفاسنا ، ونأخذ استراحة ، من تلك الأيدي التي تمتد ، وتجس، وتجرب فينا ما تخطه من وصفات ، تكلمنا بالنظرات .. وياله من كلام ... حبسته تحت إلحاح يد عبد النور التي امتدت وسحبتني لغرفتي
اقتربتّ منها ، ثبتّ عينيك بحوض الماء المستقر تحت العتبة .. لاحظ عبد النور الحيرة التي ظهرت واضحة في عينيك .. فأشار إلي الحوض وقال :
مصيدة للزواحف
دفعت الباب ، دخلت ، وجدت غرفة لا تختلف كثيرا عن غرفة عبد النور .. رميت الحقيبة بطول يدك ، فاستقرت فوق السرير .. وغادرك عبد النور لتستريح من غبار السفر كما قال لك ..
رّدّدْتّ الباب ، فاجأتك الصورة ، نظرت إليها بشئ من الدهشة .. ولأنك لم تتعود علي كبت شوقك تجاه الجمال مهما كان نوعه .. قلت : هتنطق
قلتها وتريثت بعض الوقت قبل أن تقوم وتقف أمام تفاصيلها . وظل نظرك يروح ويجئ ، يلتهم كل فتفوتة في الصورة .. أحسست بلهب النهدين تحت أناملك وأنت تتحسس انحدار هما والفرق العميق الذي يفصل بينهما ..
أفضل ما يشدك في المرأة بعد تجريب ودراسة ، صدرها ، تفرق به بين زبونة وأخري ، من حيث أنها متزوجة أو أنها بنت بنوت
" في تلك اللحظة ويدي تضغط علي الحلمة البنية والتي في حجم ثمرة النبق ، اخترق خدر اللذة كياني كله ، الذي كان يحتفظ برائحة مسام جسد وجنات ، الذي ارتجف وهي تناولني الحقيبة من داخل العتبة ، وأنا بكل صلف غضضت الطرف عن الارتعاشة ، التي سكنت أطراف أناملها .. كعادتي معها كل صباح عندما كانت تناولني مقود الحمار .. كنت أصر علي عدم معانقة بقايا الزينة التي يقبض عليها وجهها .
ولما شبعت منها ، رميت بجسدك علي السرير ، وسرحت ، وبدأت الأفكار تأخذك، تقلبك علي نار هادئة .. استعدت في مشاهد متتا لية : الطرقات المتربة ، والبساط الأخضر الممتد ، والأجساد المزروعة وسط هذا البساط ، وكلمات كانت تخرج من أفواههم، يطلبون لك الخير ، ويردون عليك الصباحات محملة بالفل .
كل هذا ، جعلك تتساءل لماذا لم أ صبر حتي تزول الشوطة .. ؟ ..
هززت رأسك ، كأنك تبعد تلك الأسئلة التي بدأت تتوالد ، والتي لو فتحت لها الطريق ، لاستوطنت رأسك ، ولن تخرج منه ، حتي لو جئت بالطبل البلدي ..
تململت وعانقت الصورة مرٌة أخري ، وأبحرت بزورق الخيال ،زرت الجزر الزرقاء في البساط المحدق بالجسد .. قلت لابد أنها صورة لها في الأصل وجود ، والمؤكد أنه في ساعة بعينها تحرق شخص ، كانت أنفاسه تملأ الغرفة شوقا لمن يحب ، فأمسك بالقلم ، حدد معالمها ، وفي اليوم التالي ، وضع اللمسات .
تعلقت بالعينين ، فركض داخلك صوت وجنات ، وهي تقول :
الشوطة هتاخد وقتها وتمشي .
وسكتتْ .. سرعان ما أفرج فمها عن ابتسامة وتابعت قائلة :
وهياجي الشتا .. وترجع الوحدة .. ويرجع ضلي أرميه كل ليلة علي أرضية الفسحاية .. وأنت قاعد جنب الريع تدفيه .. ولا علي بالك .! !
وضحكت ، لم تشاركها الضحك ، ولم تعبأ بما قالت .. وركبت رأسك ، وغاليت في رسم الصورة ولأن المشاهدات اليومية ناوشت عينيك ، بما تحفل بسقط الأفراخ الملقاة أمام
الدور ، وكذلك تنويهات الإذاعة من وقت لآخر كل هذا ،
جعلك تقول لها :
كل يوم أنيل من اللي قبله
حيال ما قلت غمغمت قائلة :
اعمل اللي فيه الصالح .
انتزعتك خبطات علي الباب ، فسحبت عينيك من علي الصورة ، وأسرعت إلي الباب ، وجذبته ، فكشف لك عن جسد عبد النور ، أفسحت له الطريق ، فدخل ، واعتلي السرير ، وأسكن اللمبة في دويلها .. لتبدأ برش ضوئها في الغرفة .
وما أن استراح عبد النور ، حتي توافد الرفقاء واحدا إثر الآخر ، وعندما جاء آخرهم ، تولي عبد النور تعريفه قائلا :
عمك محمد جمعة .
قمت له وشددت علي يده ، وتعلقت عيناك بأهداب عينيه المحروقة ، استشعرت فيهما الكثير من الأشياء والأسرار .. حرر هو يده من يدك ، وغادر الغرفة ، لم تسأل عن سبب خروجه ولا إلي أين ذهب ؟ ..
تماما كما أنت الآن ، والقفل يناغي عينيك ،واسمه بجواره ، يمرح فوق لحم الباب .. تراه كل يوم ،ولم تسأ ل نفسك ، لماذا مغلقة غرفته حتي الآن .. ؟ .. والذي حدث مضي عليه
سنوات .. !!
وككل مرٌ ة ، ها أنت تترك القفل والصدأ المتراكم عليه .. وتتجه إلي دورة المياه ، تحت إلحاح ضغط الألم في مثانتك .
--------------------------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------------------------