عماد أديب .. أجمل «تخين» في مصر
بقلم نبيل شرف الدين ٢٤/٢/٢٠٠٨
بالتأكيد لا يعرف الرجل أنه كان حاضراً ـ كنموذج محترم من الصحفيين ـ في كل محطة فاصلة طيلة حياتي المهنية المفعمة بالتحولات الدرامية، والتي لايتسع المجال هنا لسرد تفاصيلها، فرغم أنني لم أشرف بالعمل معه يوماً، ولم أقابله سوي مرات معدودات، فإن هناك حقيقة بسيطة مفادها أن الحضور لايعني بالضرورة اللقاء الفيزيائي، فما أكثر من نضطر للقائهم كثيراً دون أن نشعر سوي بعبء الابتسامات المصطنعة التي تفرض اللياقة أن نرسمها علي وجوهنا، بينما هناك آخرون ربما لا نلتقيهم إلا علي الورق، ومع ذلك يؤثرون فينا بعمق.
هكذا كان عماد أديب بالنسبة لي منذ عرفته أول مرة قبل نحو ربع قرن، ولا أدري ما الذي دفعني لتتبع سيرته وتقصي أخباره، لكن ما حدث أنني وجدت نفسي مشتتاً بين روايات لم تدع نقيصة إلا وألصقتها بالرجل، وأخري أمعنت في الإعجاب به لحد الهيام، شأن كل الكبار الذين تتوه حقيقتهم بين مبغض وعاشق، فلا يدعون للناس خيار رؤيتهم بالعين المجردة من الهوي.
والحاصل أن «العمدة» لم يكن ـ ولم يرد أن يكون ـ سوي نفسه، فربما لا يراه البعض كاتباً فذاً، وقد يشكك آخرون في علاقاته بهذه الدولة أو تلك الحكومة، كما يحدث لأي ناجح شق طريقه وسط هذه الأجواء الملبدة بالغلّ والمهاترات، لكن تبقي سيرته المهنية أكبر مما حملته موجات الأثير وصفحات الصحف من إبداعات تحتمل الاختلاف حولها، ذلك لأنه اختار منذ الخطوات الأولي ألا يراهن سوي علي نفسه، إذ أدرك الحقيقة التي لايريد كثيرون من أبناء جيله أن يفهموها ربما للآن، وهي أن يصبح «مشروع نفسه».
خاصة حين تمر الأمم والأوطان بحالة سيولة لايسمح ضمير المرء حيالها أن يكون مجرد ترس في آلة معطوبة، وبالتأكيد فهذا ليس سلوكاً أنانياً كما قد يبادر هواة توزيع الاتهامات المجانية بوصفه، فمن مجمل هذه المشروعات «الفردية» ستتشكل ملامح المشروع الوطني الحقيقي الذي يصنعه الناس، وليس ذلك الذي تفرضه رؤية سلطوية لم تمهد له الأرض الصالحة، وبالتالي فإن مصيره سيكون البوار والخيبة كما بارت مشروعات خرافية سابقة.
قرر «العمدة» أن يدوس علي «تراب الميري» في وقت كان آخرون فيه مستعدين لممارسة «عجين الفلاحة» مقابل التمرغ فيه، فاستقال الرجل من جنة «الأهرام»، غير عابئ بمن اعتبر ذلك نوعاً من «البطر» أو «الخبل»، ولم تمض سنوات قلائل حتي أصبح نجماً لامعاً في الصحافة المهاجرة، يتودد إليه من سبق أن اعتبروه «مجنوناً»، ومع ذلك كانت ثقته بنفسه أكبر من نفوس الصغار، فأفسح لهم المجال، ومنحهم الفرصة تلو الأخري، ذلك لأن الموهوبين الحقيقيين لا يخشون الاحتفاء بأدني بارقة موهبة، إيماناً بأن الموهوبين قبيلة صغيرة مستبعدة، وبالتالي ينبغي علي أبنائها أن يتدثروا ببعضهم البعض بحثاً عن معني أجمل وقيمة أنبل.
ولم تكن الصحافة المهاجرة محطته الأخيرة، بل أعقبتها محطات أخري، ففي عز تألقه بها، عاود الاستقالة مجدداً، لأنه باختصار ليس موظفاً ميسراً للقيام بهذا الدور ـ مع احترامنا للموظفين ـ فقد بدأ «العمدة» تجربة جديدة عبر فضائية «أوربت» التي لم يكن يتوقع لها النجاح وفق نظريات جهابذة الأكاديميين ـ رعاهم الله أيضاً ـ فهي فضائية مشفرة انطلقت حين كان اقتناء أطباق البث الفضائي حكراً علي علية القوم، أما الأدهي من هذا فهو أن «العمدة» وفقاً لتراث تليفزيون الريادة ـ رعاه الله بالمرة ـ لا يحمل المقومات التقليدية للنجم «المدندش»، فهو «تخين» ينتمي لفصيلة صلاح جاهين وكامل الشناوي المفعمين بحب الحياة، وفوق ذلك فهو أصلع، ولم يفكر لحظة في استعمال باروكة أو زرع شعر، أو اللجوء لجراحات الشفط والتدبيس، رغم أنه يستطيع لو أراد، لأنه دائماً لا يريد أن يكون سوي نفسه، ومجدداً أثبت أنه «أجمل أصلع، وأحلي تخين في مصر»، ليس فقط لأن له حضوراً حميماً، بل لأنه أيضاً ذكي موهوب ومجتهد، ويفيض إنسانية ورقّة وتواضعاً.
مرة أخري يحطم «العمدة» الصنم تلو الآخر، فبعد أن أثبت بما لايدع مجالاً للمكابرة أن تراب الميري خرافة لاتصنع نجوماً، ولا تكفل للصحفي استقلالية تحول دون عرض ضميره علي قارعة الطرقات، ها هو بعد سنوات يثبت أن الصحافة التليفزيونية ليست حكراً علي «الدمي الجميلة»، فقد أصبح المتلقي أنضج من أن يقع تحت تأثير سحر النموذج المذيع «المحفلط المزفلط»، فيغفر له تفاهاته وسطحيته، لا لشيء إلا لأن عينيه زرقاء أو لأن شعره الحريري «علي الجبين يهفهف».
بل أصبح القطاع الأوسع من الناس في بلادنا معنيا بالمحتوي، خاصة حين يقدم في إطار من الرصانة المهذبة، خلافاً لطاووسية البعض الذين يتعمدون الاستعلاء علي المشاهدين والضيوف، بل السخرية منهم لمجرد أنهم اقتنصوا فرصة تقديم برنامج عبر شاشات مهجورة، أو باعة المهاترات من الزاعقين الذين يصرون علي وصلات الردح، رغم انتهاء صلاحية تلك الأساليب، سواء للاستخدام السياسي أو الإعلامي أو حتي الآدمي.
باختصار، مصر الآن ليست بحاجة للمزيد من الصحفيين والإعلاميين الأكفاء فهي «ولاّدة»، ولديها ما يكفيها من المواهب، لكن ما تحتاجه ـ في تقديري المتواضع ـ هو ذلك الطراز النبيل من صنّاع الصحافة المسكونين بثقة غير صاخبة أمثال عماد أديب، لهذا فلعل الوقت قد حان لينطلق لمحطة جديدة في مسيرته، يتبني فيها مشروعاً مهنياً، خدمياً ليكن مثلاً مؤسسة باسمه لاتستهدف الربح، بل تنير الطريق أمام آلاف الموهوبين المهمشين، حتي لايقعوا فرائس للاكتئاب والانزواء، ويسقطوا في هاوية العدمية والعبثية المحتقنة.